Press "Enter" to skip to content

شرح تحليل تقديم شعر الحماسة في القرنين الثالث والرابع للهجرة – باكالوريا آداب – رابعة ثانوي تعليم تونس

شرح تحليل تقديم شعر الحماسة في القرنين الثالث والرابع للهجرة – 4 ثانوي باكالوريا آداب تعليم تونس
المقاطع الحماسية تتوفر فيها مقومات السرد السرد الملحمي في المقاطع الشعرية الحماسية
منهجية شرح نصوص رابعة ثانوي باكالوريا منهجية تلحليل النص الادبي
تحليل نصوص 4 ثانوي باكالوريا منهجية تحليل نصوص الادبية رابعة ثانوي

شعر الحماسة في القرنين الثالث والرابع للهجرة
الموضوع الثاني : << لم تكن غاية شعراء الحماسة من شعرهم تصوير وقائع حربية و تاريخية ، بل الاحتفاء بقيم إنسانية خالدة و التفنن في ترغيب النفوس فيها >>
حلل هذا الرأي و أبد موقفك منه

شعر الحماسة في القرنين الثالث والرابع للهجرة
المقدّمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة :
لشعر الحماسة في تراثنا الأدبي ارتباط وثيق بالتاريخ ، إلاّ أن أحد الدارسين لهذا الشعر يرى أن غاية شعراء الحماسة من شعرهم ليست تصوير الحروب و تسجيل التاريخ بل
الاحتفاء بالقيم الإنسانية الخالدة ، و التفنن في ترغيب النفوس فيها . فما هي مظاهر الاحتفاء بالقيم الخالدة في نصوص شعر الحماسة ، و التفنن في التعبير عنها عطفا للقلوب عليها ؟
و إلى أيّ حد يصحّ هذا الرأي ؟

الجوهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر :

1) التحليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل :

المعطى المنفي : لم تكن غاية شعراء الحماسة تصوير الوقائع الحربية و التاريخية

للشعر بمختلف أغراضه صلة بواقع الشاعر و بواقع العصر الذي ينتمي إليه . و سواء كان الغرض الشعري مدحا أو رثاء أو فخرا أو هجاء فلا بد أن يكون في قسم منه تسجيلا
للأحداث التي تجد في المجتمع زمن الحرب و زمن السلم .و من يتأمل ديوان العرب الذي يجمع شعر جاهليتهم و إسلامهم يجدْ فيه تصويرا لحروبهم و تخليدا لأيامهم على صفحات
التاريخ . غير أن الصلة المتينة بين الشعر الحماسي و التاريخ لا تحوّل قصائد الحماسة إلى وثائق تاريخية . فمقاصد الشاعر غير مقاصد المؤرخ ، و نظرة الشاعر إلى الأحداث تتغير
حسب مقاصد القول ، أما المؤرخ فنظرته ثابتة مهما تنوعت الأحداث ، فهو يلتزم بتسجيلها بأكثر ما يمكن من الدقة و الموضوعية . و هذا ما حدا بأحد الدارسين لشعر الحماسة إلى
القول بأن شعراء الحماسة لم يتخذوا تصوير الوقائع الحربية غاية من شعرهم .

** المعطى المثبت : بل الاحتفاء …
أ – الاحتفاء بالقيم الإنسانية الخالدة : المقصود بالقيم الإنسانية الخالدة هي القيم المشتركة بين البشر حيثما كانوا ، و المقصود بالاحتفاء هو استحضار هذه القيم و إعلاؤها و منها :

  • الشجاعة و حصافة الرأي :
    قال المتنبي في مدح سيف الدولة إثر عودته منتصرا من إحدى غزواته في أرض الروم:
    الرأي قبل شجاعة الشجعان — هو أوّل و هي المحل الثاني
    فإذا هما اجتمعا لنفس حـرة — بلغت من العلياء كل مكـــان
    وقال أبو تمام في مدح الأفشين وقد أخمد فتنة الخرمية بمنطقة البذ :
    بأس تفل به الصفوف و تحته — رأي تفل به العقول رزين .
  • العدل :
    قال أبو تمام في مدح المأمون بمناسبة انتصاره في إحدى معاركه ضد الروم :
    يا أيها الملك الهمام و عدله — ملك عليه في القضاء همام .
    التضحية في سبيل الشرف :
    قال أبو تمام في مدح المعتصم فاتح عمورية تلبية لصوت امرأة استنجدت به و هي أسيرة في أيدي الروم ” وا معتصماه!”:
    لبيت صوتا زبطريا هرقت له — كأس الكرى و رضاب الخرّد العرب .
    الذَّبُّ عن المقدسات :
    قال ابن هانئ في مدح المعزّ لدين الله الفاطمي :
    هذا المعزُّ بن النبيّ المصطفى — سيذبُّ عن حرم النبيّ المصطفى ( يذب = يدافع )
  • عزّة النفس ممثلة في رفض ما به يعاب الإنسان كالجبن و الذل
    قال أبو تمام في رثاء محمد بن حميد الطوسي:
    و قد كان فوت الموت سهلا فردَّه — إليه الحفاظ المُرُّ و الخُلُقُ الوعـــرُ
    و نفس تعاف العار حتى كأنـــــه — هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر
    فالممدوح أو المرثي أو الشاعر نفسه ( في معرض الفخر) يجسّد هذه القيم على أرض الواقع فهو البطل الملحمي حامي الأرض و العرض و الدين
    ب – عطف القلوب على هذه القيم و ترغيب النفوس فيها بالتفنن في التعبير عنها :
    للشعر وظيفة أخلاقية إذ يهدف إلى إحياء القيم النبيلة ، و تزيينها في القلوب ، و تحبيبها إلى النفوس . و لهذه الوظيفة حضور بارز في قصائد الحماسة . فقد تنافس الشعراء في تجويد التعبير
    عن هذه القيم مستغلين ما تتيحه اللغة من إمكانيات تعبير على مستويات مختلفة :
  • الثراء المعجمي ممثلا في وفرة الألفاظ ذات المعنى الحماسي مثل تعدد أسماء السيف، و أسماء الرمح ، و أسماء الحرب … مما يفسح المجال أمام الشاعر ليدقق الوصف و يدعم القدرة
    التأثيرية للمشاهد الموصوفة .
  • توسيع دلالة بعض المعاجم باستعمالها في غير سياقها المألوف ، و الخروج بها عن معانيها الأصلية إلى معان مجازية . فمن عادة المتنبي مثلا أن يستعمل معجم الحب في سياق حماسي
    كقوله مفتخرا :
    ضروب الناس عشاق ضروبا — و أعذرهم أشفهم حبيبــا
    وما سكني سوى قتل الأعادي — فهل من زورة تشفي القلوبا
    فالشاعر يفتخر بعشقه للحرب و يتمنى زيارة ساحاتها ليشفي شوقه إليها ، فللناس فيما يعشقون مذاهب ، و مذهب الشاعر في الحب غير مذهب الناس ، فغرامه بالقتال كغرامهم بالغواني …
    فانظر كيف صوّر الشجاعة في أعلى مظاهرها ( الشوق إلى الحرب ) و فارق ما عليه الناس من كلف بالنساء و قعود عن المجد الذي لا سبيل إليه إلا بخوض المعارك الطاحنة .
  • تنويع الصور الشعرية التي تبلغ بالمعنى حدّ الغلوّ و ذلك بالإغراق في التخييل : فهذا المتنبي يتغنى بثبات سيف الدولة في وسط المعمعة وقد لاقى جيش الروم الجرار قرب قلعة ا
    لحدث مصوّرا شجاعته : وقفت و ما في الموت شك لواقف — كأنك في جفن الردى و هو نائم .
    فهو في ساحة الوغى أقرب ما يكون من الموت ، حتى كأنه في جفنه و الموت غافل عنه (نائم) و ذلك هو منتهى الشجاعة : أن تواجه الموت و تتحدّاه .
  • توظيف الإيقاع الموحي بالقوة : و من مظاهره ترديد الأصوات ذات الجرس القوي كما في قول ابن هانئ يمدح المعزّ :
    منع المعاقل أن تكون معاقلا — موج الأسنة حولها يتصلصل.
    فالشاعر يتغنى بقوة ممدوحه التي قهر بها أعداءه ، فأخرجهم من حصونهم بقوة السلاح . و قد عمد إلى بناء إيقاع يوحي بهذه القوة فردد أصواتا قوية كالعين و القاف و الصاد و اللام .
    إنها صورة صوتية لهذه القوة تعاضدها صورة بصرية ( صورة الموج ) .
  • التغني بهذه القيم في خطاب حكمي يتميز بجمال الصياغة ، كما تغنى المتنبي بقوة عزيمة سيف الدولة التي جعلته يقدم على قتال الروم في قلعة الحدث رغم محذور شوكتهم :
    على قدر أهل العزم تأتي العزائـــم — و تأتي على قدر الكرام المكارم
    و تعظم في عين الصغير صغارها — و تصغر في عين العظيم العظائم .
    فانظر كيف أخرج المعنى مخرج الحقيقة العامة الصالحة لكل زمان و مكان ليقنع به العقول ، و كيف زخرف العبارة بتكثيف الجناس و الطباق و المقابلة لدعم وظيفة الخطاب التأثيرية .
    وعلى كل فإن شعراء الحماسة في احتفائهم بالقيم الإنسانية و ترغيب النفوس فيها قد خلصوا أشعارهم الحماسية من الصبغة التسجيلية التي تربطها بمرجعية تاريخية محددة . و حققوا أهم
    وظائف الشعر الكبرى من قبيل التأثير في النفوس و تخليد قيم الجماعة.

2) إبداء الرأي :

إلا أن الاحتفاء بالقيم الإنسانية كوظيفة من وظائف شعر الحماسة لا يخفي حضور الوقائع التاريخية التي صوّرها الشعراء في قصائدهم مثل فتح عمرية ، و استرجاع قلعة الحدث ،
وإخماد فتنة الخرمية في منطقة البذّ ، و وقعة المجاز في صقلية … و هذا يجعل لشعر الحماسة وظيفة مرجعية ، أي قيمة وثائقية . فقد عني الشعراء بإبراز هذه الوظيفة بذكر الأحداث
( الزحف – اللقاء – المعركة – النصر …) ، و أسماء الأعلام ( المعز لدين الله – الأفشين – أبو سعيد الثغري – محمد الوسي – سيف الدولة – جوهر الصقلي …) ،
و المواقع ( قلعة الحدث – الدرب – عمورية – البذ – أرشق . أبرشتويم ….) …
و لشعر الحماسة و ظائف عديدة غير الاحتفاء بالقيم و تصوير الوقائع كالتعبير عن الذات عند أبي الطيب المتنبي إذ يقول :
لأتركنّ وجوه الخيل ساهمة — و الحرب أقوم من ساق على قدم .
فنفسه تحتدم فيها الثورة على العبيد الملوك الذين ابتلي بهم عصره ، لذلك يهدد بشن حرب شعواء عليهم ، و قتلهم .
و من وظائف شعر الحماسة أيضا الذود عن المذهب الديني / السياسي و نشر مبادئه و مدح رموزه . فابن هانئ قد غالى في مدح المعز لدين الله الفاطمي إمام الشيعة الإسماعيلية
الرابع عشر و الخليفة الرابع للدولة الفاطمية في إفريقية ثم في مصر . قال فيه ابن هانئ :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار — فاحكم فأنت الواحد القهار .

3) التاليف :
و صفوة القول أن نصوص شعراء الحماسة تحمل شواهد كثيرة على احتفائهم بالقيم الإنسانية الخالدة و تفننهم في التعبير عنها لترغيب النفوس فيها ، و تشتمل إلى جانب ذلك على إحالات كثيرة على
التاريخ ، وتعكس انتماءاتهم المذهبية و السياسية ، و تعبر عن مكنونات ذواتهم .

||| – الخاتمة :
إذًا الغايات التي رمى إليها شعراء الحماسة الثلاثة في تجاربهم الشعرية غايات متنوعة ، موزعة بين ما هو ذاتي متعلق بمنشئ الخطاب الحماسي ، و ما هو موضوعي متعلق بالإطار التاريخي
والقيمي الذي اكتنف إنشا . لذلك لا يمكن حصر ها في غاية واحدة و هي الاحتفاء بالقيم .
فما هي وجوه الاختلاف و الاتفاق بين الشعراء الثلاثة في احتفائهم بهذه القيم ؟


مظاهر الاتفاق و الاختلاف بين شعراء الحماسة الثلاثة .
سنذكر مظاهر الاتفاق و الاختلاف مبوّبة حسب مراكز الإهتمام في دراسة شعر الحماسة
1)المعاني الحماسية و أغراض الشعر :
ترد المعاني الحماسية عند الشعراء الثلاثة في معرض المدح خاصة ؛ مثل مدح أبي تمام للمعتصم ( فتح الفتوح ) ،و مدح المتنبي لسيف الدولة ( الحدث الحمراء ) ، و مدح ابن هانئ للمعز
لدين الله الفاطمي
( ما شئت لا ما شاءت الأقدار ).
وقد ترد في قصائد الرثاء مثل رثاء أبي تمام لمحمد الطوسي ، و رثاء المتنبي لأبي شجاع فاتك ، و قد ترد في سياق الهجاء كهجاء أبي تمام للجلودي في مصر ، أو هجاء المتنبي لكافور
الإخشيدي .لكن المتنبي أكثر من إدراج المعاني الحماسية في سياق الفخر فامتاز بذلك عن أبي تمام و ابن هانئ . و لعل ذلك راجع إلى إحساسه المفرط بتضخم الذات و إيمانه الراسخ بأن
القوة هي السبيل الوحيدة
لمغالبة الدهر وبلوغ المجد كقوله :
لأتركن وجوه الخيل ساهمة *** و الحرب أقوم من ساق على قدم .
2) الباعث على نظم المقاطع الحماسية :
لئن صدر الشعراء الثلاثة فيما نظموا من شعر حماسي عن عقيدتهم الإسلامية و اعتزازهم بما حققه الأمراء و الخلفاء و القواد المسلمون من انتصارات باهرة على الروم الصليبيين فخلدوا
الأمجاد و تغنوا بالبطولات ، فإننا نجدهم مختلفين في الروح التي تحرك قرائحهم ، فأبو تمام تحركه العصبية القبلية في مدحه الحماسي لأبي سعيد الثغري الطائي إذ يقول :
لولا جلاد أبي صعيد لم يزل *** للثغر صدر ما عليه صدار
و رثائه لمحمد بن حميد الطوسي الطائي ألذي يقول فيه :
فتى مات بين الضرب و الطعن ميتة *** تقوم مقام النصر إذ فاته النصر .
أما المتنبي فتحركه في مدحه للأمير العربي سيف الدولة الحمداني روح عربية تكره الأعاجم إذ يقول:
تهاب سيوف الهند و هي حدائد *** فكيف إذا كانت نزارية عُربا ؟
و يقول مشيدا بانتصار سيف الدولة على الدمستق قائد الروم :
و لست مليكا هازما لنظيره *** و لكنك التوحيد للشرك هازم تشرف عدنان به لا ربيعة *** و تفتخر الدنيا به لا العواصم .
فانتصار سيف الدولة شرف للعرب جميعا (عدنان ) لا لقبيلته (ربيعة )فحسب. و أما ابن هانئ فتحركه في مدحه للخليفة الشيعي المعز لدين الله الفاطمي قناعات مذهبية شيعية. فهو قائد
ينضوي تحت لوائه فتية شيعية شعارهم الولاء للخليفة المعز لدين الله ( و هو الإمام الرابع عشر للشيعة ):
و على مطاها فتية شيعية *** ما أن لها إلا الولاء شعار حفوا برايات المعز و من به *** تستبشر الأملاك و الأمصار .
3) اعتنى الشعراء الثلاثة بتصوير مظاهر القوة المادية ( الجيش ، السلاح ، الخيل …) و تفرّد ابن هانئ بوصف السفن ، فأبدع في وصف الأسطول الفاطمي الذي كان أعظم قوة
بحرية في البحر المتوسط ، و ذلك نظرا لطبيعة الصراع بين الفاطميين و الروم في عرض البحر. يقول : من القادحات النار تضرم للطلى *** فليس لها يوم اللقاء خمود إذا
زفرت غيضا ترامت بمارج *** كما شي من نار الجحيم وقود .
4) صور الشعراء الثلاثة هزائم الأعداء في المعارك البرية ، فوصفوا بشاعة الخراب ، و فظاعة الحرائق ، و سيول الدماء … و تفرّد بن هانئ بوصف هزائم البيزنطيين في
المعارك البحرية فصور إحراق السفن و إغراقها و راكبيها في موج البحر . فهذا أبو تمام يصور الخراب الذي ألحقه جيش المعتصم بعمورية فيقول :
لـقد تركت أمير المؤمنين بها *** للنار يوما ذليل الصخر و الخشب . حتى كأن جلابيب الدجى رغبت *** عن لونها و كأن الشمس لم تغـب
و هذا ابن هانئ يصور ما ألحقه جيش المعز بأرض الروم من دمار فيقول :
أضحوا حصيدا خامدين و أقفرت *** عرصاتهم و تعطت آثار كانت جنانا أرضهم معروشــة *** فأصابها من جيشه إعصار
5) على المستوى المعجمي بالغ أبو تمام و المتنبي في استعمال الحوشيّ من الألفاظ و المعقّد من التراكيب لأداء معان عادية مجترّة. أما لغة ابن هانئ فهي في الأعمّ الأغلب
مألوفة سلسة . و لعل ذلك راجع إلى طبيعة المحيط الثقافي الذي نشأ فيه كل شاعر ففي المشرق العربي كانت الفصاحة تقاس بالقدرة على استعمال الغريب ، أما لغة الأندلسيين
فكانت أميل إلى السهولة .
6) على مستوى الصور استلهم كل من أبي تمام و المتنبي أغلب صورهما من الموروث الشعري . و إليك هذا المثال : فقد شاع عند الشعراء منذ الجاهلية تصوير الطيور
التي ترتاد ساحات المعارك لتفترس الجثث ، كقول النابغة الذبياني في مدح عمرو بن الحارث الغساني : إذا ما غزوا في الجيش حلّق فوقهم *** عصائب طير تهتدي ب
عصائـب يصاحبنهم حتى يغرن مغارهــم *** من الضاريات بالدماء الدوارب .
فاستلهم أبو تمام هذه الصورة في مدح المعتصم و قائد جيشه الأفشين :
و قد ظللتْ عقبان أعلامه ضحى *** بعقبان طير في الدماء نواهــــل أقامتْ مع الرايات حتى كأنها *** من الجيش إلا أنها لم تقاتل .
ثم جاء المتنبي فأخذ الصورة نفسها و أضاف إليها من فنه و خياله فقال في مدح سيف الدولة الحمداني:
له عسكرا خيل و طير إذا رمى *** بها عسكرا لم تبق إلا جماجمه .
وأما ابن هانئ فاستلهم الموروث الديني لأداء المعاني الحماسية و لعل ذلك راجع إلى شخصية البطل الممدوح ( المعز لدين الله الفاطمي )الذي يتمتع بتأييد إلهيّ باعتباره من
ذرية الرسول – صلى الله عليه و سلم -. فيقول مشبها انتصار الممدوح على الروم الكافرين بانتصار الرسول و المسلمين على الكفار :
نصر الإله على يديك عباده *** و الله ينصر من يشاء و يخذل.
ويقول مشبها حراقات المعز بالجحيم :
إذا زفرت غيظا ترامت بمارج *** كما شب من نار الجحيم وقود.
وهي صورة مستوحاة من الآية الكريمة : << وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ >> .
7) و تنافس الشعراء الثلاثة في تصوير قوة المعارك فنقلوا صورا من ساحات القتال تبرز قوة الضرب و الطعن و الفتك بالعدو … فقال أبو تمام في وصف قوة الضرب
و سرعة الطعن :
أوسعتهم ضربا تهد بـه الكلى *** و يخف منه المرء و هو ركين ضربا كأشداق المخاض و تحته *** طعن كأن وجاءه طاعــــــون
و كان للمتنبي فضل كبير في دقة تصوير المشاهد القتالية المليئة بالحركة و في حسن توظيف الإيقاع لإكساب هذه المشاهد قوة في الإيحاء و مثال ذلك قوله في وصف
معركة “الحدث” :
بناها فأعلى و القنا تقرع القنا *** و موج المنايا حولها متلاطم.
فقد أحسن توظيف الإيقاع ( بترديد صوت العين و صوت القاف و صوت النون ) للإيحاء بقوة المعركة .
أضفى الشعراء الثلاثة طابعا ملحميا على كثير من قصائدهم الحماسية و ذلك بتوظيف السرد ( سرد مراحل الحملات التي شنها المسلمون على بلاد الروم من خروج
الجيش للحرب إلى عودته منتصرا ) و الوصف ( وصف الجيوش و السلاح و الخيل و المقاتلين …) و ذكر أسماء الأبطال ( سيف الدولة – أبو سعيد الثغري …)
و أماكن المعارك( موقان – أبرشتويم – أرشق – جزيرة صقلية … ) فقصائد أبي تمام الطائي في مدح القائد العربي أبي سعيد الثغري الطائي، وفي مدح الخليفة العباسي
المعتصم، و مدائح أبي الطيب المتنبي لسيف الدولة الحمداني ، و مدائح ابن هانئ للمعز لدين الله الفاطمي ملاحم أو فصول من ملاحم، تصور جهاد المسلمين للروم .


اتباع بناءِ القصيدة القديمة في القصائد الحماسية

  • الاستهلال الطللي في قصائد الحماسة : نهج شعراء الحماسة نهج القدامى في استهلال القصائد ذات الطابع الحماسي بالوقوف على الأطلال والبكاء على الدمن . فهذا
    المتنبي يستهلُّ أولى مدائحه الحماسية في سيف الدولة استهلالا طلليا فيقول :
    وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه — بأن تسعدا و الدمع أشفاه ساجمه.
    و افتتح أبو تمام مدحية له في أبي سعيد الثغري بالوقوف على الأطلال فقال :
    حتّام دمعك مسفوح على الدِّمَنِ — بانوا و شوقك لم يظعن و لم يَبِنِ.
    ثمّ ذكر رحلته إلى الممدوح ، ثمّ انخرط في المدح الحماسي. و لم يتبعوا هذه السنة في افتتاح القصائد بالوقفة الطللية إلا لأنَّ مجاراة القدامى في هذه الحلبة كانت دليلا
    على الفحولة الشعرية .
  • التجديد في استهلال :
    غالبا ما عدل الشعراء عن هذه المقدّمة التقليديّة ، فنوّعوا مقدماتهم ، و جاؤوا في مستهل قصائدهم بالحكمة كقول أبي تمام في مدح المعتصم :
    السيف أصدق إنباء من الكتب — في حده الحدّ بين الصدق و الكذب .
    وقال المتنبي في مدح سيف الدولة الحمداني :
    على قدر أهل العزم تأتي العزائم — و تأتي على قدر الكرام المكارم
    وهي حكم يستخلص الشعراء مضامينها من الحدث الذي تخلِّده قصيدة المدح الحماسي ( فتح عموريّة – تحرير قلعة الحدث من أيدي الروم.) وهذا النوع من المقدمات فيه
    إيحاء بأهمية الحدث الباعث على إنشاء القصيدة ؛ و هو أكثر إثارة لاهتمام المتلقي ، و لفتا لانتباهه من المقدمات التقليدية ( الطللية أو الخمرية او الغزلية) التي غالبا ما
    تكون مصطنعة ، مفتقرة إلى الصدق.
    وقد يهجم الشاعر على الغرض بدون مقدمات كما فعل ابن هانئ في مدح المعزّ :
    ما شئت لا ما شاءت الأقدار — فاحـكـم فأنـت الواحد القـهَّـار
    فبدأ بتعظيم الممدوح ورفع مشيئته فوق مشيئة القدر، استعدادا للإشادة بمنجزاته العسكرية ، و أعماله البطولية ، والهزائم التي ألحقتها جيوشه بالروم و بالقرامطة في الشام.
    وهذا أنسب للمدح الحماسي من المقدمات القديمة.
    أما المراثي الحماسية فجاءت في معظمها تقليدية البناء : تفجُّعٌ ، ثم تعظيمٌ لمصيبة فقد المرثي ، ثم تأْبِينٌ بذكر مناقبه ، ثم تصبُّرٌ و تأسٍّ . و من أحسن المراثي الحماسية
    الخاضعة لهذا البناء مرثية أبي تمام في خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني أحد أشهر ولاة العباسيين على أرمينية و أشجع قادتهم ؛ و مطلعها:
    نَعَاءِ إِلى كلِّ حيٍّ نَعاءِ — فَتى العربِ اخْتَطَّ رَبْعَ الفَناءِ.
    وقد اشتملت على مقطع حماسي عدَّد فيه الشاعر مناقب المرثيِّ ، و خصاله الحربية ، و أعماله البطولية
    و أما قصائد الهجاء التي تحمل طابعا حماسيا ، فتكون في الأعمِّ الأغلب بلا مقدمات كقول أبي تمام في هجاء عيسى بن يزيد الجلودي الذي كان واليا على مصر فظلم
    الناس وزاد عليهم في خراجهم فحاربوه وهزموه :
    قل للجُلُوديّ الـذي يدُهُ — ذهـبـتْ بمالِ جُنودِه شَعْـبَا
    الله أعطاك الهزيمةَ إذْ — جَذبَتْكَ أساب الرَّدَى جَذْبَا
    فالشاعر الذي يفيض قلبه غيظا على المهجوّ انخرط في الهجاء دون مقدمات و كأنه يصب جام غيظه و غضبه عليه

السرد الملحمي في المقاطع الشعرية الحماسية :
الملحمة شعر قصصي بطولييروي أحداثا خارقة و بطولات عجيبة ، وبعض المقاطع الحماسية تتوفر فيها مقومات السرد الملحمي من شخصيات ، و أطر مكانية و زمانية
و أحداث و وصف . فكثير من الشعراء ، إذا ذكروا معركة ، سردوا أطوارها و فصّلوا مراحلها من الاستعداد للحرب إلى الانتصار على العدوّ ، و صوروا ما يأتيه
الأبطال من أعمال تشبه الخوارق و أشادوا بالتضحيات في سبيل مُـثُـلٍ عُلْيَا. وهذا يسم أشعارهم بسمات ملحمية دون أن يرتَقِيَ بها إلى مستوى الملاحم كما عُرِفت في
الآداب العالمية . و إليك هذا النموذج الملحمي من شعر أبي تمام في مدح الخليفة العباسي المأمون :

  • الخروج للحرب في جيش عظيم لنصرة الإسلام :
    لما رأيتَ الديــن يخــفــق قــلـــبه والكفر فيه تغطرس و عُــرام
    أوريْــت زنــد عزائم تحت الدجى أسرجن فكرك و البلاد ظــلام
    فنهضت تسحب ذيـل جيش ساقـه حسـن اليـقـيـن و قاده الإقْـدام.
    مُـثْـعَـنْجِـرٌ لَجِـبٌ تـرى سُـلاَّفَـــه و لهم بمُـنخَرِقِ الفضاء زحام
  • خوض معركة ضروس :
    حتى نقضت الروم منك بوقْعَةٍ شـنْـعاءَ لـيْـس لِـنَـقْـضِها إِبْـرام
    في مَعْرك أما الحِمَامُ فمُفْـطِــرٌ في هُـبْوتـَيْـهِ و الكـُمَـاةُ صـيــامُ
    و الضربُ يُقْعِدُ قَرْمَ كلِّ كتيبةٍ شرس الضريبة و الحتوف قيام
    هزيمة العدوِّ:
    لـمَّــا رأيـتَهُـمُ تُـســاقُ مـلوكُـهُــم حِـزَقًــا إلــيــك كأنَّهــم أنْــعَـامُ
    جرحى إلى جرحى كأنَّ جلودهم يُـطْـلَى بِـهـا الشَّـيّاَنُ و العُلاّمُ
    نهاية المعركة:
    أكـرمْـتَ سـيـفَـك غرْبَه و ذُبـابـه عَـنْهُـم و حُقَّ لِسَيْفِكَ الإحرامُ
    فانظر كيف أسند الأفعال كلها إلى الممدوح فجعل منه بطلا ملحميا هبَّ للدفاع عن الإسلام و المسلمين و هدِّ ركن الكفر ، وأعدَّ لذلك جيشا جرَّارًا خاض به معركة حامية
    الوطيس ، وقتل وأسر من الأعداء خلقا كثيرا ، وانتصر عليهم انتصارا مبينا
    و السرد الملحمي تتخلله عادة مقاطع وصفية تخصص في أغلب الأحيان لوصف البطل و جيشه و حسن بلائه في القتال ، و وصف مظاهر هزيمة العدو

شرح جميع نصوص وقصائد الباكالوريا بحوث مواضيع انشاء حجج تعبير انتاج كتابي لغة عربية ملخصات الدروس امتحانات تحليل نصوص قصائد فلسفة من هنا